الأسباب الحقيقيّة وراء إقالة جمال خاشقجي من رئاسة تحرير " الوطن "
عبد الرحمن بن محمد الأنصاري
أقول بادئ ذي بدء : إنّ ما سيرد من أسباب أزعم أنها كانت وراء إقالة الصحفي البارز الأستاذ جمال خاشقجي من رئاسته لجريدة الوطن السعودية ، إنما هو نِتاج خبرة ومعايشة متصلة تناهز الأربعين عاما ( عاملا ومراقبا للأوضاع في بلادي المملكة العربية السعودية وبخاصة الإعلام وما يتّصل به ) ... فأقول مستعينا بالله مستمدا منه العون والتوفيق والسداد :
إننا لو أخذنا الكفاءة المهنية معيارا وحيدا مؤهلا لبقاء الأستاذ جمال خاشقجي على رئاسته لتحرير جريدة الوطن ، لربما وافته منيته بعد عمر طويل وهو على كرسي رئاسة التحرير ، ولكن الحقيقة هي أن جمال خاشقجي فهم شيئا وغابت عنه أشياء جوهرية... وهو ليس بدعا في ذلك ، فله أشباه ونظائر صاروا وزراء ، ولكن جهلهم بحقائق الأمور وسوء اختيارهم للحاشية التي يرون الأمور من خلالها ، مع إن لبث وأودى بهم حتى أصبحوا اليوم في عداد المنسيين الأموات وإن كانوا أحياء .
إنّ الذين اختزلوا الأسباب الحقيقية لإقالة رئيس تحرير جريدة الوطن / جمال خاشقجي، وحصروها في مقالة تُمجّد التصوف والمتصوفين ،وتغُضّ من السلفية والسلفيين ، ولا تُساوي الحبر الذي كُتبت به ، قد بسّطوا الأمر ، واخذوا جزئية صغيرة وجعلوها بمثابة الكلّ الأكبر ، الذي هو السبب الحقيقي.
وفي رأي القاصر أن ما كان ينقص الأستاذ جمال خاشقجي ليس هو العمل الصحفي وتقنياته، بل المعرفة الحقيقية لمجتمعه وأوضاعه والسياسة التي يسوس ويُديرُ بها ولاة الأمر الأمورَ ، ومثل تلك المعرفة أمر ضروريّ لكل من يُسند إليه أمر من الأمور بغض النظر عن كيفيته وماهيته ، فرسولنا صلى الله عليه وسلم ، كان أول وصاياه ، إلى سفيره ومبعوثه إلى اليمن معاذ بن جبل رضي الله عنه هي الصورة الحقيقية للذين سيقدم عليهم، وسيدير أمورهم إدارة ينبغي أن لا تكون عن جهل ، بل بالمعرفة.. وذلك حين قال له عليه الصلاة والسلام ما معناه : ( إنك يا معاذ ستأتي قوما من أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه ....) الحديث.
فبعد أن بيّن له حقيقة من سيقدم عليهم ، فصّل له أولويات التعامل معهم من حيث الدعوة ، وما يتّصل بعد ذلك بالأحكام والمعاملات ..
ومن يتولّى رئاسة تحرير مطبوعة ( جريدة أو مجلة ) في أي بلد من البلدان يُفترض فيه أن يكون على علم تام بالحقيقة التي تسير عليها الأوضاع في ذلك البلد .. وباستقرائنا لمنهج تعامل جريدة الوطن في عهد رئاسة جمال خاشقجي لتحريرها ، سنجد البون الشاسع مع ما تتناول به الجريدة الأوضاع في المملكة ، وبين ما كان ينبغي أن يكون عليه ذلك التناول .....
فلنترك الحديث عن الأستاذ جمال خاشقجي بعد ترجله من على صهوة جواده ، ولنوجهه إلى جريدته، التي لم يكن هو وحده العامل فيها ، وإن كان هو رأس ذلك الجسد الذي يديرها... فباستعراضنا للكثير من القضايا التي أثارتها الجريدة ، أو التي كانت طرفا فيها سنجد أننا أمام جريدة تحمل اسم ( الوطن ) وهي أبعد ما تكون استيعابا للسياسة التي يدير بها القادةُ الوطنَ ... فالتجربة السعودية في سياسة الشعب ، تجربة جديرة بالتأمل والتسجيل والدراسة.. ذلك أن من بين جزئياتها مسالة على جانب كبير من الأهمية ، وتكاد أن تكون ( ماركة مسجلة باسم القيادة السعودية ) وهي الاستعانة بالزمن في علاج المشكلات وحلّ مستعصيات الأمور... فهنالك قضية تُعْتبَرُ فيها سياسة القيادة السعودية على النقيض التام من سياسات معظم الدول العربية والإسلامية التي نعرفها مع شعوبها ...
فشعوب تلك البلدان هي التي تُطالب إلى درجة الصُّراخ بالتنمية وإصلاح الأوضاع وتحسين مستويات التعليم والتّوسع فيه ، والتباطؤ غالبا ما يكون دوما من تلك الحكومات، التي يكون عدم الاستجابة لتلك المطالب ، أو بعضها السبب الحقيقي في إسقاطها... ولكن الوضع في المملكة العربية السعودية هو غير ذلك تماما ، بل هو على النقيض منه جملة وتفصيلا .. فالقيادة في المملكة العربية السعودية هي الجاهزة على الدوام لتطوير شعبها ، بإيجاد سائر وسائل ومظاهر التقدم والازدهار التي لا تتعارض مع الدين والقيم ، وهي في ذلك مثل الوالد الذي لديه الاستعداد التام لتزويد مولوده الصغير بكل ما يلزمه من التعليم حتى الجامعي وما فوقه وشراء أفره وأفخم المركبات له ، ولكن ليس قبل بلوغه رشد التعامل مع التعليم الجامعي وقيادة المركبات....
والأمثلة على ذلك لا يحدها الحصر ومنها : قرار تعليم المرأة الذي كان قرارا اتخذته الدولة في الوقت الذي رأت فيه أنه هو وقته المناسب ، وقبله كان قرار إلغاء الرّق .. وقرار البطاقة التعريفية بالمرأة، والذي كثر الجدل حوله في الصحف والمنتديات ووسائل الإعلام الأخرى ، إلى أن رأت القيادة أنّ ساعة مولد ذلك القرار قد حانت ، بما رأته من النضج لقبوله واستيعابه ... وتلك هي مجرد أمثلة ونماذج لعشرات بل مئات القرارات ، التي كانت الدولة هي صاحبة القرار الأول في اتخاذها مع ما قد يتراء من أنها إنما جاءت بعيدا عن الرغبة الشعبية ولكن تلك الرغبة الشعبية إنما مثلها مثل الطفل الذي يرفض التطعيم ضد المرض الوبائي فيحمله عليه ولي أمره حملا ... ولا أدل على ذلك من أن أولئك الذين كانوا بالأمس يُعارضون تعليم المرأة ، هم من كانوا يتسابقون بعد ذلك في تعليم بناتهم ونسائهم ، وأن أولئك الذين كانوا يُعارضون حصول المرأة على البطاقة التعريفية لها ، هم ألآن من تمتلئ ردهات وساحات إدارات الأحوال المدنية بهم للحصول على بطاقات تعريفية لزوجاتهم وبناتهم وأخواتهم ...
وإن ما يُثار اليوم من لغط في داخل بلادنا وخارجها حول مسألة قيادة المرأة للسيارة ، أمرٌ أجزم ( ومتحملا تبعات ما أقول ) أنّ سبب عدم إعلان الدولة السماح بقيادة المرأة للسيارة في المملكة العربية السعودية حتى الآن ، إنما هو مُراعاتها لرغبات سواد الرأي العام الشعبي الذي لا يزال حتى الآن غير مستوعب لقبول ذلك في ظروف اجتماعية رأينا فيها حالات لم تسلم معها بعض من كنّ يقدن سيارتهن ذكور ، سواء أكانوا سائقين أو أولياء أمورهنّ.
وإن نزول القيادة السعودية عند تلك الرغبة الشعبية ، هو عين الديمقراطية وحقيقتها التي يتشدق بها الكثيرون ممن لا يستوعبون مراميها الحقيقية ..
فأما الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه جريدة الوطن ، فهو خطأ مزدوج جاء من أكثر من وجه .. وأسبابه كلها من سوء الفهم .. وعدم القراءة الصحيحة للأوضاع ..