لماذا لا يمكن لنا السيطرة على هذه القوى؟ وكيف ندخل، إذن، إلى هذا العقل لنحصل على أيِّ صنف من صنوف الفائدة دون أن نعرف ماهيته وكيف بالإمكان السيطرة عليه؟
إننا في حاجة إلى أن ندرك أن قوانين هذا العالم ليست مطلقة، وأن كلَّ شيء في الوجود قابل للتغيير في أية لحظة. لا يوجد شيء ثابت، وكل القوانين التي من حولنا قوانين مؤقتة، والعقل البشري هو الثابت الوحيد الذي لا يتحدد بقيم زمانية أو مكانية. فهو منظومة system أوجدت الزمان والمكان؛ ولا يمكن لهذه الأبعاد، إذن، أن تحدَّ العقل أو تخوِّلنا مسبقًا الحقَّ في الحكم عليه. ولكي يكون المعنى أوضح وأقرب إلى ذهن القارئ العربي (بما يحمله من ثقافة دينية خاصة)، نقول إن العقل طاقة إلهية مطلقة، يمكن استخدامها والانتفاع بها دون القدرة على تحديد ماهيتها. وهذه الطاقة تشبه في ذلك لون الماء؛ فكما أن الماء لا لون له ولا طعم، كذلك العقل لا ماهية تكوينية خاصة به إلا كلمة تعريف خاصة: نظام ماوراء زمكاني. وما أوتينا من العلم إلا قليلاً! والدخول إلى فضائه الخاص – مجرَّد الدخول – يُعتبَر إنجازًا عظيمًا في حياة أيِّ إنسان. وغالبية الحالات التي تمكَّن فيها إنسانٌ حساس من استثمار قواه الخفية هي حالات تلقائية خارجة عن نطاق السيطرة؛ وما خضع للسيطرة كان مؤقتًا بفترة محدودة، بمعنى خضوعه لظروف نفسية خاصة مرَّ بها ذلك الشخص الحساس.
فما هي هذه الظروف؟ إنها بالتأكيد تلك الظروف التي تؤدي بالإنسان إلى أن ينفر من هذا العالم ومن قوانينه، وبذلك يسهل عليه أن يدخل إلى عالمه الخاص، ويبدأ باستخدام قوى جديدة ذات قوانين جديدة تحل محلَّ القوانين التي أنكرها لفترة مؤقتة. لكن ما أن يفيق هذا الإنسان من الصدمة حتى يعود العقل الظاهر (الذي نعيش به في حياتنا العامة) إلى اتخاذ دوره الاعتيادي، غارقًا في قوانينه القديمة، حاجبًا القوانين الداخلية الخاصة التي يمكن لنا أن ندركها إدراكًا تلقائيًّا من اللاوعي.
فهل يمكن تأسيس مسالك تدريبية قادرة على عَزْلِ الفكر عن هذا العالم للدخول إلى العالم الداخلي الخاص؟ إن ذلك يعتمد، بالدرجة الأساس، على الشخص نفسه. فهو يحتاج إلى أن ينكر من حيث المبدأ الماضي كلَّه ويختلي إلى نفسه ليخبرها (من حيث المبدأ): "أنا لم أولد يومًا قط. لقد كنت موجودًا قبل الزمان، وسأكون موجودًا، سعيدًا، بعد الزمان."[6] فاعتقاد الإنسان بأنه مولود في يوم معيَّن، في حدِّ ذاته، تأكيد وتكريس للقوانين التقليدية التي يجري عليها وعيُه الظاهري والتي تدَّعي بأن له بداية في الحياة وستكون له نهاية.
لكن، وبما أننا "افترضنا" من ناحية علمية صرفة بأن العقل برمَّته (الباطن والظاهر) ذو جذور ضاربة فيما وراء الزمكان المعروف، بحسب النظرية النسبية وما نتج عنها من تصورات رياضية وفلسفية عن الطبيعة، فإن هذا يعني بأن الدخول إلى فضاء العقل المطلق يتطلب منَّا إيمانًا بأننا كيانات عقلية ماوراء المكان والزمان، ولا نخضع "فكريًّا" في الحقيقة لقوانين هذا العالم، مع أننا قد نتأثر بها. عندئذٍ فقط يكون الدخول ممكنًا، في الوقت الذي لا ننسى فيه أن جزءًا منا، هو الجسد، يعيش في هذا العالم المحسوس ويحتاج إلى رعاية وانتباه خاصين، لأن قوانين هذا العالم، على بساطتها، قوية ويصعب الإفلات من إطارها – إلا إذا فهمنا جيدًا ماذا وراء العقل البشري، وكيف يمكن "اختراق" النظام الكوني العام (مجموع الأنظمة الكونية)، وكيف يمكن التأثير في هذا العالم.
فما هو النظام الكوني العام؟ وما علاقة العقل البشري به؟
يقول تشنر: "إن اللاوعي عقل موحَّد يشترك فيه كل البشر، أي أنه محصلة جمعية لإدراك كل الناس."[7] وهو في ذلك يشير إلى أعماق اللاوعي البشري (درجات الوعي الباطني). وإن هذا الرأي الذي يحشر نفسه ضمن مجموعة الآراء في الپاراپسيكولوجيا هو الأقرب إلى فيزياء اللازمان واللامكان؛ فهو يلغي في وضوح المكان، وربما الزمان.
مشكلة الپاراپسيكولوجيا ومأساتها هي تأثرها بعلوم الرادار واللاسلكي التي تطورت في القرن العشرين. لهذا السبب تمَّ إهمال آراء تشنر واتِّباع الرؤى الأخرى التي تصور التخاطر telepathy والقوى النفسية الأخرى وكأنها موجات. إن التصور الموجي لطاقات العقل ربما كان السبب في تأخر اكتشاف طاقة الپسيكوفيزياء (الپاراپسيكولوجيا). كذلك، كان التصور القديم، المتأتي عن المعتقدات الدينية فيما يتعلق بالروح والعالم الآخر، السببَ في "تهيؤات" الهالة الروحية aura أو الجسم الأثيري etheric ****، وهي من مخلفات تصورات القرنين التاسع عشر والثامن عشر. نعم، إن الجسم الأثيري والهالة المحيطة بالجسم التي تتراءى للروحانيين والكثير من الپاراپسيكولوجيين ما هي، في رأينا، إلا "استعارات" أو إسقاطات projections يقوم بها لاوعي الفرد لإيصال فكرة إلى الوعي الظاهر ليس إلا. وليس من الغريب أن تكون هذه المشاهَدات تحصل على نطاق شبه موحَّد بين الأفراد في مختلف بقاع العالم، بما يُظهِر وكأن هناك جسمًا أثيريًّا بالفعل (كما يحصل مع تفسير الأحلام).
لكن كثرة تنوع المشاهَدات وكثرة اختلاف التفاصيل بعد التتبُّع العلمي الدقيق لكلِّ هذه المشاهَدات يُلزِمُنا، بما لا يقبل الشك، بالتوقف قليلاً عند النظرية النسبية وما تبعها من تنظير، وكذلك بالعودة إلى رؤى تشنر عن كون العقل أساسًا نطاقًا واحدًا يشترك فيه الكل، خارجًا عن إطار الزمان والمكان، ولا يخضع لقوانين هذا العالم التقليدية، ويجعلنا نعيد النظر من جديد في معنى أن يكون الكون "قصة" ثلاثية الأبعاد مخزونة في نظام عقلي كوني يخضع لقوانين خاصة من البرمجة. فالدخول إلى فضاءات الداخل وحده يكفل التعرف عن كَثَب على نُظُم الكون العليا (إن كانت هناك نُظُم كهذه).
ما الذي نتوقع وجوده في ضوء النظرية النسبية ونموذج "القصة الكونية مسبقة الإعداد متعددة الاحتمالات"؟ إن هذا يعيد تشكيل تصورنا عن العالم. فبدلاً من أرض كروية تدور حول الشمس، ومن شموس كونية عملاقة تملأ الفضاء مكوِّنةً المجرات galaxies، نتوصل إلى "إحساس" لاصوري ملموس أو مرئي للعالم. إنه تصور بسيط لألعاب الكومپيوتر ثلاثية الأبعاد. فهذا العالم لعبة كومپيوتر ثلاثية الأبعاد.
لقد هبط العقل البشري من مستواه الفائق (الكوني) إلى مستواه الفكري البسيط الذي قسَّم الكون إلى أشياء ومسمَّيات، كان أولها: أنا ونحن وهُم! لقد دخل العقل البشري في لعبة توارثتْها الأجيال اسمها الحياة، فيها ثنائيات من نحو: نحن/هم، مادة/روح، خير/شر. إن الثنائية المتجلِّية في كلِّ شيء دنيوي دليل صارخ على أن الحياة والوعي الظاهري لعبة تجري بين فريقين: لعبة الكومپيوتر العملاق الذي تسكن الحقيقة فيما وراءه. لقد نسي الإنسان بأنه عبارة عن منظومة، وأورث مفهوم الفردية المعزولة للأجيال. وعلى الرغم من هذا كلِّه، مازال "العقل الكوني" Cosmic Mind يعمل على إعادة ضمِّ العالم من جديد، ليصل به إلى نقطة البداية الأولى ليس إلا.
ومن جديد نسأل: كيف ندخل؟ والأصح أن نقول: كيف نعود؟
الدخول غير مسموح به لِمَنْ لا يدرك أن مفاد القانون الحقيقي الوحيد في هذا الكون هو أن لا ثبات للأشياء، وأن كلَّ شيء قابل للتغيير في أية لحظة؛ بعبارة أخرى، القانون هو "لاقانون"! ونعود من جديد ونقول إن رأي هيغل في هذا الجانب هو الرأي الصائب: "التناقض أصيل في طبيعة الكون." ومتى ما تحرَّرنا من فكرنا كلِّه، نكون قد دخلنا في عالم جديد تتغير فيه القوانين كلَّ لحظة. علينا حينئذٍ التسليم بتلقائية انسياب الأفكار. هذه الأفكار التي ستنساب لا تخلو من خطورة، ولا تخلو كذلك من احتمال الخطأ. لكننا بالممارسة نصل إلى تكوين لغة تَخاطُب مفهومة فيما بين "ظاهر" وعينا وبين "باطنه".
ما الذي نتوقع حصوله بعد ذلك؟ إننا نعود من جديد إلى التكهُّن؛ لكنه هذه المرة تكهن يستحق التوقف والتأمل من جديد.
سنكتشف أن عالم اللازمان واللامكان أشبه براصد أو "شاهد" يرصد هذا العالم، وأن التغيير الذي يمكن أن نجريه في هذا العالم هو ببساطة تحريف قيم الثوابت الكونية universal constants. على سبيل المثال، فإن ثابت الجاذبية الأرضية المساوي ل9.8 من الممكن أن نغيِّره عبر الدخول إلى فضاء العقل الكوني لنجعل الأجسام تتطاير في الهواء.
إن الاعتقاد السائد، بحسب تصورات القرن العشرين (قرن الاتصالات الموجية، كما أسلفنا) فيما يتعلق بتحريك الأشياء عن بُعد، أو ما يسمى بالpsycho-kinesis، كان تصورًا مبنيًّا على أساس الموجات وكيف يمكن أن تنطلق من الفكر البشري لتفعل في المادة عن بُعد ما تفعل.
عند تجميع الصورة الكاملة عن حقيقة ما يجري في تحريك الأشياء، ندرك أن المسالة في بساطة تتمثل في إعادة برمجة الحاسوب الكوني العملاق بتغيير قيم الثوابت الكونية تغييرًا مؤقتًا، بحيث تظهر بفعل ذلك "المعجزات" في التاريخ.
ولعل ازدواجية السلوك الموجي/الجسيمي للفوتون الضوئي دليل على أن جذور النظام الكوني البرمجية قابلة للتغاير. كذلك مصفوفات هايزنبرغ ونُظُم حركة الإلكترون في الذرة إنما تشير بإيماءة واضحة إلى أن قوانين الكون، في رتبة من رُتَب تسلسلها، عبارة عن "فكر". هنالك، على ما يبدو، ما يشبه الحياة في صميم الجمود المادي، قد لا تكون "حياة" بالمعنى المعروف للحياة.
لكن، وعَوْدًا على بدء، فإن الإقرار بانتماء العقل إلى عالم ماوراء الزمان والمكان أمر لا مفرَّ منه، في الوقت الذي نحاول أن نفهم كيف تتغير قيم الثوابت الكونية، مثل موقع الإلكترون وعزمه. فبحسب مبدأ عدم التعيين Indetermination Principle (مبدأ اللايقين uncertainty) لهايزنبرغ في الميكا***ا الكوانتية Quantum Mechanics، فإن الموقع والعزم يخضعان لقيم متغيِّرة احتمالية.
وهنا نسأل: لماذا لا يكون العقل البشري قد أدرك، بقدراته التقليدية، الموضع الذي يقوم به "العقل الكوني" بتغيير الثوابت الكونية؟ هذا الموضع هو الذرة بالتأكيد. فلماذا لا تكون الپاراسيكولوجيا، في ضوء ما سبق، هي لحظة من لحظات ارتقاء العقل البشري الظاهري للدخول إلى العقل الباطني، الذي يتمكن من الاندماج مع نُظُم الكون العليا التي تتحكم في تغيير الثوابت الكونية، فتجري الأمور وكأن "معجزات" تحصل بقيام الوعي الإنساني الطبيعي بتغيير قيم هذه الثوابت، فتحصل التغييرات في المادة.
هل هناك ثوابت في هذا الكون إذن؟
الحقيقة المُرَّة التي يخشاها جبن الفكر البشري هي أن يصحو الإنسان في يوم من الأيام ليكتشف أن لا شيء ثابت في هذا الكون على الإطلاق. وتلك بالتأكيد لحظة الولادة الكبرى، لحظة الحقيقة البكماء التي توحي ولا تنطق!
"لقد كنتَ في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءَك فبصرُك اليومَ حديد" (سورة ق 22).
وتقبلوا فائق تحياتي